مقدمة :
تسعى الأممُ المتحضرة دائمًا للحفاظ على تراثِها القني باعتباره المُعبِّر عن مسيرتها الإنسانية الخلاقة والمبدعة، ومن ثم فقد أُنشئت الأرشيفات وقواعد البيانات والمتاحف التي تضم الوثائق والمقتنيات – الدالة على هذا التراث – بتعدد وتنوع مواده وموضوعاته وفتراته التاريخية.
وتحظى مصر بتراثٍ موسيقي ثري ومتنوع في جوانبِ الإبداع المختلفة، سواء كان إبداعاً شعبياً أو تقليدياً أو جماهيرياً، لعبت من خلاله الثقافة المصرية دوراً رائداً وتقدمياً ومحموداً في حركة الإبداع الموسيقى العربي.
ولا شك أن النهضة الموسيقية التي صاحبت حركة المسرح الغنائي في مصر – منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى العقد الثالث من القرن العشرين – قد فتحت آفاقاً جديدة للموسيقى المصرية والعربية على وجه العموم، استوعبتها الفنون الجديدة آنذاك سواء السينما أو الإذاعة والتليفزيون، وكان لظهور هذه الوسائط الجديدة ورواجها والتطور المطرد والتغير في الحياة الموسيقية في مصر أثرٌ واضح في نكوص وتراجع الإبداع المسرحي الغنائي، ساعد على ذلك أيضًا رحيلُ بعض رواد المسرح الغنائي وابتعاد البعض عن الأضواء، الأمر الذى أدى إلى اختفاء هذا التراث الغنائي المسرحي فلم يبق منه إلا القليل على الرغم من أهميته.
إلا أنه – وعلى الرغم من كل ما سبق – فقد خلفت نهضة المسرح الغنائي في مصر إنتاجاً كبيراً من الأعمال الموسيقية المسرحية التي شارك فيها كثيرٌ من عظماء المبدعين من الملحنين مثل سلامة حجازي وداود حسنى وكامل الخلعي والشيخ سيد دوريش ومحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد، إلى جانب الأدباء والشعراء أمثال نجيب حداد وبديع خيرى ويونس القاضي وبيرم التونسي، والفنانين من أمثال نجيب الريحاني وجورج أبيض وعلي الكسار، وفنانات مثل منيرة المهدية وبديعة مصابني وغيرهم.
وقد أولت الدولة المصرية – إبان ثورة تموز/يوليو 1952م – اهتمامًا بالثقافة المصرية على اختلاف أنواعها؛ فأنشأت مركز دراسات الفنون الشعبية 1957م؛ وذلك لجمع وتوثيق ودراسة الثقافة الشعبية المصرية بمختلف عناصرها ومن مناطقها الثقافية المختلفة والممتدة بطول وعرض المعمور المصري، كما اهتمت بجمع وتوثيق الإبداعات الموسيقية التي أنتجها الملحنون المصريون في القوالب الغنائية التقليدية مثل الموشح والدور والطقطوقة والقصيدة … إلخ، وهو ما نتج عنه تدوينُ الكثير من هذه الأعمال ونشرها ضمن أجزاء متعددة أشرفت عليها اللجنة الموسيقية العليا برئاسة أحمد شفيق أبو عوف في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
وفى مجال التراث الغنائي المسرحي، تنبه القائمون على الثقافة المصرية في خمسينيات القرن العشرين إلى أهمية جمع وتوثيق هذا التراث، خاصة مع وجود رغبة واضحة في إعادة تقديم هذا التراث برؤية جديدة وبأساليب فنية تجمع ما بين تقنيات التأليف الغربي والتناول الأوركسترالي الذي شاع في هذه الفترة التي ارتبطت بوجود جيل من المؤلفين والموزعين وقادة الأوركسترا المصريين، والرغبة في تقديم أعمال مصرية خالصة بأسلوب عالمي (قدمت هذا المقترح الدكتورة سمحة الخولي عام 1958م).
ومن ثم فقد شُكّلت لجنة فنية من كبار الموسيقيين منهم الدكتور حسين فوزي وعبد الحميد عبد الرحمن ومحمد القصبجي وأحمد شفيق أبو عوف وعلى إسماعيل وعبد الحليم علي وإبراهيم شفيق وعلي فراج، وانضم لهم خلال عملهم المؤرخ الموسيقى محمود كامل وذلك لجمع ما بقي من تراث المسرح الغنائي ممثلاً بالمدونات الموسيقية والنصوص الأدبية.
وقد استمر عملُ اللجنة – على مدار أربعة عقود – مع تغير أعضائها في محاولة لجمع تراث كل من سلامة حجازي وداود حسنى وكامل الخلعي وسيد درويش، واتخذت اللجنة (المُشَكَّلة في خمسينيات القرن العشرين) مسارين أساسيين:
وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي تم في جمع وتدوين هذ التراث المهم، لم تنتهِ هذه اللجان من عملها وتوقفت أكثر من مرة دون أن يظهر عملها إلى النور، وبقى محفوظاً لدى المجلس الأعلى للثقافة دون نشره أو الاستفادة منه علمياً أو فنياً، على الرغم من أهمية هذا التراث الغنائي المسرحي وعدم وجود أرشيف حقيقي له.
ورغبة من وزارة الثقافة في استكمال أعمال اللجان السابقة، أصدر الأستاذ الدكتور أمين المجلس الأعلى للثقافة يوم 28/3/2019 القرار الرقم 247 لسنة 2019م بتشكيل لجنة من أساتذة علوم الموسيقى هم: د. عزة مدين ود. رشا طموم ود. محمد شبانة ود. أحمد الطويل ود. خيري عامر ود. أحمد الحناوي لفحص التراث المحفوظ لدى المجلس الأعلى للثقافة الخاص بعمل اللجنة السابق ذكرها – والذي تم العثور عليه من خلال أمينة شعبة الفنون([1]) وإدارة التراث الثقافي بالمجلس – وحصر وتوثيق النوت الموسيقية والنصوص والاستماع إلى شرائط الـ Reel المحفوظة بمكتبة المجلس تمهيدًا لأرشفة هذا التراث بمنهجية سليمة ورقمنته إلى جانب اقتراح تصور لما تراه اللجنة من توصيات للاستفادة الأفضل من هذا التراث النادر.
وقد بدأت اللجنة عملها في اجتماعها الأول بتاريخ 9/4/2019، بحصر الوثائق والمحاضر والمدونات والتسجيلات، ثم قررت ضرورة الاستماع لمحتوى شرائط الـ Reel حتى يتضح معها طبيعة التراث سواء في شكله المسموع والمسجل أو المدوّن.
وقد استغرق البحث عن جهاز لتشغيل الأشرطة الموجودة وتسجيلها في نسخة حديثة على الكومبيوتر – عدة اجتماعات استماع تضمنت اختبارًا صوتيًا لأكثر من جهاز متاح في هيئات حكومية مختلفة لاختيار الجهاز المناسب للمهمة.
وجدت اللجنة خلالها عدم صلاحية الأجهزة المستعارة من الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية، وتم التعاون مع دار الاوبرا المصرية باستعارة الجهاز المحفوظ لديها، ثم بدأ البحث عن الوصلات المناسبة لهذه النوعية القديمة من الأجهزة بالاستعانة بخبراء سواء من الأوبرا أو خبيرة من لدن الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية([2]) لنقل محتوى الأشرطة بصورة رقمية لجهاز الكومبيوتر.
بعد الانتهاء من نقل الشرائط والحصول على المحتوى المسموع، استأنفت اللجنة الفنية المتخصصة اجتماعاتها للاستماع لمحتوى الشرائط ومضاهاتها بالمدونات الموجودة لحصر التسجيلات الصالحة وبيان مدى دقة المدونات الموجودة، بالإضافة إلى قيامها بالاطلاع على محاضر تسجيل هذه الأعمال.
وقد وجدت اللجنة أن سرعة التسجيلات غير متوافقة مع المدونة المرفقة؛ لذا كلفت أحد أعضاء اللجنة المشكلة([3]) بمراجعة التسجيلات وضبط السرعة بما يتوافق مع المدونات المرفقة باستخدام أحد البرامج المخصصة لذلك.
وتوقف عمل اللجنة بسبب الأزمة الوبائية الراهنة واتخاذ الدولة التدابير الاحترازية لمواجهة الوباء بحظر الاجتماعات.
وبعد انتهاء اللجنة من عملها خلصت إلى الآتي:
وقد قدمت اللجنة بعضَ التوصيات التي تأمل أن تتبناها وزارة الثقافة كمشروع طموح لتوثيق والحفاظ على التراث الثقافي المصري بكل أنواعه وإعادة إحيائه فنيًا، وخاصة التراث الغنائي المسرحي الذي يمثل فترة مهمة وفارقة في تاريخ الفن المصري الرائد في مجال الموسيقى والغناء والمسرح، ويهدف هذا المشروع إلى:
وإيمانًا من المجلس الأعلى للثقافة واللجنة المشكلة بأهمية هذا التراث الذي يمثل كنزًا حقيقيًا ليس فقط على المستوى الموسيقي والفني، ولكن أيضًا في أهمية الوثائق والمحاضر والمدونات الموسيقية التي ترتبط بأعلام الثقافة والفن في مصر في القرن العشرين، وتحقيقًا للتوصية الأولى من مقترحات اللجنة، رأت اللجنة ضرورة نشر هذا التراث ممثلاً فيما وصل إليها من وثائق ومستندات وإتاحته للدارسين والفنانين والباحثين[5]؛ وذلك للتعرف عليه والاستفادة منه علميًا وفنيًا.
ولا شك أن هذا الجهد ليس مكتملاً بالقدر الكافي أو المُرضى لعدم توافر كل الوثائق بشكل كامل، غير أن الباب يظل مفتوحًا لمزيد من الجهود المرجوة والمسؤولة انطلاقًا من الإيمان العميق بقيمة ما قدمه الرواد من جهود مثمنة وإبداعات عظيمة.
[1]) والذى تم العثور على مدوناتها ووثائقها من خلال أمينة شعبة الفنون وإدارة التراث الثقافي بالمجلس دكتورة همت مصطفى، وكذلك وجدت التسجيلات على شرائط الريل في مكتبة المجلس الأعلى للثقافة أمانة أستاذة منال فيصل وبذلك تم إنقاذ تراث مهم لمرحلة مهمة من أعمال تدوين التراث الموسيقى في ذلك الوقت وإنقاذه من الضياع. وقد تضمنت اللجنة عضوا قانونيا هو أستاذ مصطفى محمود.
[2]) استاذة كوكب محمد
[3]) أ. د أحمد يوسف الطويل.
[4]) نظرا لهذا التطابق اكتفت اللجنة بنشر النسخة المتاحة للكمان أو البيانو أو الفلوت لأن بعض المدونات مفقود.
[5] علما بوجود بعض المخاطبات والوثائق المحفوظة في ادارة التراث بالمجلس تبيّن أنه من الافضل عدم نشرها لكن مع اتاحتها للباحثين للاطلاع عليها داخل المجلس.
مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.
https://www.arabmusicacademy.orgكانون2 02, 2023
كانون2 02, 2023
كانون2 02, 2023
كانون2 02, 2023
Total Votes: | |
First Vote: | |
Last Vote: |
كانون2 02, 2023 Rate: 5.00
كانون2 02, 2023 Rate: 0.00
كانون2 02, 2023 Rate: 5.00
كانون2 03, 2021 Rate: 5.00
آذار 31, 2021 Rate: 5.00
أيار 02, 2021 Rate: 5.00
أيار 07, 2013 Rate: 1.00
أيار 02, 2015 Rate: 1.50
حزيران 30, 2012 Rate: 5.00