عبد العزيز ابن عبد الجليل
لا تجد الأغنية الشعبية اليوم سوى القليل من القبول في المحافل الموسيقية المتطورة حيث تتأجج أكثر القيم الجمالية المتعالية بحمى التغيير؛ بينما يتكشف الواقع – من جهة أخرى – عن وجود أناس متعصبين ومتحمسين لتظاهرات الهواء الطلق التي تجمع بين متعتي السمع والبصر.
تكاد الحفلات الموسيقية الشعبية - في الواقع - أن تزدهر عبر عموم الأقطار القديمة من أوروبا، وأن تنفتح على ألوان موسيقية مهما كانت مختلفة عن تلك المنتشرة في المدن أو التي تبثها الإذاعات، فإنها لا تحظى بتكريم الجماعات، وسينتهي بها المطاف إلى أن يلفها النسيان مع مرور الزمان.
وبينما الأمر على هذه الحال تبدو العلاقة فضفاضة إلى حد ما بين هذه الاحتفالات الشعبية التي يرتفع الإقبال عليها، من قبل روادها، وبين العروض المصطنعة والأكثر قبولا لدى عشاق المتع الأكثر تعقيدا. فبالنسبة لهاتين الفئتين من المستمعين، تبدو الآثار المسموعة واحدة لا تتغير، غير أنها لا تحمل نفس الجاذبية، ولا تمارس على المستمع نفس التأثير.
ذلك أن الأغنية الشعبية المنتشرة في المناطق المذكورة من البلاد الأوروبية تستفيد حاليا من حظوة جديدة لدى جمهور غير متعود على المستجدات والاستكشافات الجريئة، أو حتى غريب بالمرة عن الوسط الموسيقي الذي لم يعتد المخاطرة.
هذا الانجذاب نحو الفن الشعبي، كان من ورائه المغنون والراقصون الوافدون من مختلف المناطق في قارتنا، هؤلاء السفراء الذين يأتون وعليهم بذلات زاهية الألوان، تختلف خياطتها عن المألوف بين الناس، وكأنما همهم أن يجذبوا انتباه الجمهور وتحريك الفضول.
من جهتها، تشكل الاحتفالات المقامة في إطار "مهرجان كورنوال"[2] Fètes de Cornouailles بمدينة "كيمبر" Quimper شبه معهد أوروبي لهذه الفرق الفلكلورية، تلتقي فيه صنوف من الألوان الفنية، وتتعانق في أجوائه فنون إسبانيا مع نظيرتها الوافدة من هولاندا، كما تلتقي فيه فنون يوغوسلافَيا مع القادمة من إيرلاندا، وأخرى من سويسرا ورومانيا وبلغاريا، كل ذلك بعيدا عن الإيديولوجية السياسية.
منذ حوالي ثلاثة عقود، كانت الرقصات المدنية تحتل موقع السبق بالنسبة للرقصات المحلية التي أصبحت مستصغرة ومتجاوزة. واليوم يستعيد الرقص المحلي حظوته في أوساط الممارسين والمشاهدين على السواء.
في بداية القرن العشرين كنت شاهدا على نفور بَيِّن من طرف أشخاص من المفترض أن يكونوا أكثر استعدادا للاستماع لما تفرزه حياة المدينة من مستجدات، بدلا من أن يظلوا راضين بما تمنحهم إياه مواطنهم الأولى. حدث هذا في مرتفعات "مينيز"[3] Menez ، بجهة بروتاني، وكانت الظروف يومئذ قد قادتني في إحدى الرحلات إلى بلدة رَاوَدَني فيها الأمل بجمع بعض الأغاني التراثية ولا سيما منها التي ما انفكت عالقة بذاكرة السكان.
استطعت - بعد جهد جهيد – أن أقنع صاحبة الفندق الذي نزلت به بأن تغني لي بعض محفوظاتها القديمة؛ وبعد فترة قضتها بين التمنع آنا والاستسلام آنا آخر لإلحاحي، وجدت السيدة في معرفتي الجيدة للهجة بلدها ما أشعرها بالراحة وبدد ترددها، فغنت لي لحنا على درجة كبرى من الروعة والسمو، وهو اللحن الذي أدرجته في ختام "سمفونيتي على مقام لا" Symphonie en la.
إنه انطباع مختلف تمام الاختلاف ذلك الذي تركته في نفسي الألحان التي تم جمعها في جزيرة "خيوس"[4] Chio من طرف "هوبيرت بِّيرْنُو[5] Hubert Pernot في نفس الفترة تقريبا، هذه الأغاني التي طلب إلى بِّيرْنو أن أقوم بتسجيلها على لفائف الشمع وفق الطريقة السائد استعمالها يومئذ، والتي سوف تشكل بالنسبة لموريس رافيل Maurice Ravel ألحانا جاهزة لتوظيفها في أربع من ميلودياته الخمس.
لم يجد هوبيرت بِّيرنو أي تمنع من طرف المغنين الشعبيين في جزيرة خيوس، فقد استجابوا لرغبته من أول وهلة عن طواعية ورضى، ونفوسهم ملؤها الاعتزاز بأغانيهم التي لا يرون مانعا من تقديمها لكل من يقصد ديارهم.
من بين الأغاني التي جمعها هوبرت مقطوعة ذات جمال أخاذ، تغنيها أم خنق الألم صوتها بعدما فقدت طفلها، فامتزجت وحشية الرنة بحرارة العاطفة، وأخذت تنساب عبر لحن تتكرر فيه بشراسة أربع نوتات موسيقية، ترجعها الأم في ظل رتابة يائسة لموسيقى وألم لا أمل في انتهائهما.
ومن بين روائع جزيرة خيوس أيضا أغنية ذات منعطفات مرحة ومداعبة تذكرنا بشكل لافت للنظر بلحن "ترتيل" ديني من منطقة بريتاني الفرنسية. وقد سبق لـ "بوركَو – دوكودري Bourgault-Ducoudray[6] أن وقف على تشابه غريب بين أغنيتين إحداهما من جزيرة كورسيكا والأخرى تم العثور عليها في سواحل أسيا الصغرى.
كانت تلك مفارقة غريبة، ولا سيما في منطقتين بعيدتين عن بعضهما، وفي وقت كان فيه الراديو خارج نطاق التداول. فهل كان البحارة والمسافرون هم أنفسهم من ينقلون هذه الأغاني من منطقة إلى أخرى؟ وإذا صح هذا فأي المنطقتين كانت المصدر الأول للأغنية؟ ثم هل كان هؤلاء المطربون العرضيون مسؤولين عن عمليات ترحيل الأغاني إلى رصيف ما أو فندق ما؟
حدث لي منذ عهد غير بعيد أن قمت بزيارة جزيرة "سكيروس"[7] Skyros القريبة من الساحل اليوناني. وكان يراودني الأمل في أن أكتشف فيها بعض النفائس النادرة من الأغاني التراثية التي يعود تاريخها إلى عهد "بيريكليس" Périclés[8] خطيب اليونان. دخلت دكاناً لبيع القطع التحفية القديمة، فكانت المفاجأة الكبرى عندما وقفت على تحفة قديمة كتبت عليها العلامة التجارية "مخازن لافييت" Galeries Lafayette[9]. أخذت أفحص قطعا أخرى، فزاد من عجبي أن تحمل إحداها علامة "كيمبر"[10] Quimper. حينها أخذت أتساءل في أعماق نفسي: إذا كان قد قدر لهذه المصنوعات من التراث المادي أن تقوم بمثل هذه الرحلة الطويلة، فما الذي يحول دون أن تخترق الأغاني المحمولة على أجنحة الألحان اللامادية المسافات الطوال في مختلف الاتجاهات؟ إنها "الهجرات الموسيقية" التي قد تصبح ذات يوم "رحلات نجومية" إذا كنا نصدق التنبؤات العلمية.
مرة أخرى تحملنا المفاجأة إلى ما نلحظه من علاقة تشابه غريب بين مقاطعة وأخرى تفصل بينهما مسافة بعيدة: نحن هنا أمام مقاطعة "أوفَيرني"[11] Auvergne الواقعة في مركز البلاد الفرنسية، ومقاطعة بروتاني الرابضة غربي فرنسا. والمقاطعتان معا قائمتان على سطح غرانيتي. ووجه التلاقي بينهما تقاسمهما لأغنية شعبية قديمة بينهما تشابه صارخ لولا أن كل واحدة منهما تكتسي عند الأداء مزاجا خاصا: ففيما يجنح لحن الأغنية في أوفيرني إلى البطء والسكون، وتخترقه الكآبة، ثم يستعيد صفاءه في رفقة الراعي عند حضن الجبل، تبدو (الأغنية) في منطقة بروتاني قوية الإيقاع، وهي تغازل في ابتهاج حماس المغني وقد استهوته متعة صيد الأرانب فراح يضاعف هذه المتعة بمحاكاة صوفية لذيذة. وفي ما يلي النسيج اللحني للأغنية:
[1] Paul Le Flem. (1961). MUSICA, n° 88. Imp. CHAIX, p 40 – 42.
[2] مهرجان سنوي يقام في كيمبر، وهي مدينة في الجنوب الغربي من بريتاني، غربي فرنسا والمهرجان يطرح ثقافة بروتاني في تنوعها وثرائها.
[3] من أعلى المواقع في بريتاني على ارتفاع 330 مترا.
[4] خيوس جزيرة يونانية في شمال بحر إيجة قبالة السواحل التركية القريبة من إزمير.
[5] لغوي متخصص في الدراسات اليونانية الحديثة.أنجز في سنتي 1898 و1899 رحلتين إلى جزيرة خيوس حيث سجل موسيقى الأغاني والرقصات الشعبية التقليدية التي دون كاتب المقالة بعضها بالنوتة الموسيقية. توفي 1946.
[6] لويس ألبرت بورغولت-دوكودراي (ت 1910) مؤلفً وعازف بيانو وأستاذً تاريخ الموسيقى والنظرية الموسيقية في معهد بريتون الفرنسي.
[7] جزيرة يونانية تقع في بحر إيجة شرقي البحر الأبيض المتوسط.
[8] رجل دولة وخطيب يوناني. توفي عام 429 ق م في أثينا.
[9] متاجر فرنسية أنشأها فرنسيان بباريس عام 1883، ثم أحدثت لها فروع بفرنسا وخارج فرنسا.
[10] كامبار، أو شنت كرنتين، بلدية تقع في الشمال الغربي لفرنسا بمنطقة بريتاني.
[11] منطقة تقع وسط فرنسا، مقرها الإداري مدينة كليرمون فيرون.
مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.
https://www.arabmusicacademy.orgآذار 30, 2023
آذار 30, 2023
آذار 30, 2023
آذار 30, 2023
Total Votes: | |
First Vote: | |
Last Vote: |
آذار 30, 2023 Rate: 5.00
آذار 30, 2023 Rate: 5.00
آذار 30, 2023 Rate: 5.00
أيار 02, 2021 Rate: 5.00
أيار 27, 2021 Rate: 5.00
تموز 29, 2021 Rate: 5.00
أيار 07, 2013 Rate: 1.00
أيار 02, 2015 Rate: 1.50
حزيران 30, 2012 Rate: 5.00