عبد العزيز ابن عبد الجليل
عرفت الموسيقى السريالية منذ ظهورها زخما متدفقا من البحوث والدراسات لم يكد يجف مدادها، واستمرت لمدى طويل تتأرجح بين النقد اللاذع وبين الاعتراف لها بحق الوجود والنماء بحثا عن حقيقة جديدة. على أن كل ذلك لم يمنع من أن تنتشر ممارستها، وتلج دراستها رحاب المعاهد الموسيقية إلى جانب المواد التعليمية، بل لقد بلغ بعض المدافعين عنها مبلغ نعتها بعلم الظواهر الذي أسسه إدمون هوسرل.[2]
انطلقت بداية السريالية مع مبدعها الأول المؤلف الموسيقي النمساوي أرنولد شونبرغ [3] Arnold Schönberg عام 1923، فكان بذلك الممارس والمنظر لقواعدها. ولم تكن مؤلفاته المبكرة تؤشر بالمرة لأي تحول في الكتابة الموسيقية سيكون من شأنه أن يثير إعجاب تلامذة المستقبل أو يهيج سخط المحافظين؛ مثلما أن نظريته الجديدة هذه لم تنبثق في البدء من دماغه وهي كاملة النضج، فلقد كانت فترة حملها طويلة مرهقة يتهددها التردد الذي لم تتبدد سحبه إلا بعد سنوات من التأمل قبل اتخاد القرار الحاسم لدخول معركة الإنجاز.
فما هي الموسيقى السريالية؟
إنها عبارة عن تقنية في التأليف الموسيقي تَعتمد على استخدام سلسلة من العناصر الموسيقية. وقد ساعد استعمالها إلى جانب الدوديكافونيا[4] على أن يصبح في الإمكان تأليف أعمال موسيقية لا مقامية.
في بدايات مؤلفاته الأولى كان شونبرغ منقادا لهيمنة المقامية العتيقة، غير أنه لاحظ في تريستان وإيزولت لريتشارد فاغنر وفي مؤلفات أخرى أن حضور المقامية كان غير مستقر، مثلما كان غامضا بل وحتى وهميا، يبدو في هيئة ضبابية خالية من صادق الضوء الصريح للكلاسيكيات.
وقد كان من الضروري منذ البداية إعطاء اسم لهذا المولود الجديد، فسمي بـالـ "لا مقامية" مع استعمال "لا" النافية التي تنتزع من أرشيفَات عالم الصوتيات النظام التونالي بعد أن ظل على امتداد ثلاثة قرون في خدمة روائع العبقرية الأصيلة بمنتهى الوفاء والإخلاص.
وقد تحولت هذه التقنية في القرن العشرين إلى حركة موسيقية تبنتها "مدرسة فَيينا الثانية" مع كل من شونبرغ وألبان بيرغ Alban Berg وانطون فيبيرن Anton Webern عندما أنشأوا نظاما قائما على تطور للغة الموسيقية سبق إليه غوستافَ ماهلر Gustav Mahler ومؤلفون أخرون من الرواد.
وكرد فعل أمام إملاءات المقامية، شادت حركة الموسيقى السوريالية نظرية جديدة تركيبية أصبح من المحتمل أن تحل محل الهارموني المقامية التي كانت سائدة منذ القرن الثامن عشر. ويقوم نظام الدوديكافونيا في الغالب على استخدام الأصوات الكروماتية الاثنتي عشرة وفقا لنظرية التعداد وبدون اللجوء إلى التكرار. وتعتبر السريالية بمثابة امتداد للدوديكافونيا، وهي لا تظهر بالفعل إلا مع الفالس التي ألفها شوينبيرغ (المصنف رقم 23).
لقد نظر شونبرغ إلى هذه الـ "لامقامية" في البدء بعين الحذر والريبة، وهي تبدو أمامه مضطربة، غير محددة الهدف، ملوثة بالدنس الذي صدمه، فزعم أنه يحل محلها نظاما أكثر تماسكا وحزما، ثم يصبح مذهبه واضحا وأكثر تحديدا. وهو يعترف بصلاحية وضرورة النغمات الاثنثي عشرة للسلم المعدل، ولا يفكر بأي حال من الأحوال في تقسيم بعد التون التقليدي إلى ثلثه أو ربعه، فإن استخدام هذه النغمات الاثنتي عشرة هو ما يسعى إلى تقعيده بفضل "المتوالية" Série.
فما هي المتوالية؟ هي توالي النغمات الاثنتي عشرة التي يتكون منها المقام الكروماتي. وتعتبر المتوالية نقطة الانطلاق، والخلية الأم (مصطلح يبدو مريبا لأنصار الموسيقى السريالية) لكل تأليف يبرر النظام الاثني عشري الذي يتطابق أيضا مع مصطلح "الدوديكافونيا"؛ ثم إنه الجزء الأساس الذي يضمن نشأة الفكر الموسيقي، ومنه تنبثق سائر القوالب اللحنية والهارمونية. هذا الاستنتاج يفترض أن تنتظم نغمات المتوالية وفق نظام يحدده الرسم التخطيطي الأولي، تحت طائلة مخالفة البنية التي أملتها القاعدة النظرية.
فيما يلي جزء من أول قطعة دوديكافونية كتبها شونبرغ، وتتعلق بفقرة من الفالس الخامسة المصنفة تحت الرقم 23. في البدء تأتي المتوالية التي تولّد كل ما سيكون بمثابة "دليل مقام" المقطوعة. وقد كتب فوق كل علامة موسيقية رقما يثبت نظام تسلسل النغمات بما لا يمكن تجاوزه.
سيلاحظ في القسم الثاني من الفالس أن نوتات المتوالية تتوالى وفق شكل لحني ضمن النظام السريالي. ولمزيد من التوضيح فإن "نغمة" تسبقها علامة دييز رافعة مثلا يمكن تعويضها بـ "نغمة" مطابقة لها تسبقها علامة "بيمول" (فا دييز = صول بيمول) وكذا بعكسها. ومن جهة أخرى يمكن قلب بُعد، وفي هذه الحالة يتحول بعد الثالثة المقلوبة إلى بعد سادسة.[5]
تعرض الحقول الأربعة الأولى المعزوفة باليد اليمنى نغمات المتوالية الاثنتي عشرة وفق الترتيب الرقمي المبين أعلاه. أما اليد اليسرى فتستخدم في البدء النغمات من 8 إلى 12، ثم تنتقل إلى النغمات من 1 إلى 5. وسنلاحظ دونما صعوبة أن هذه الطريقة ذاتها روعيت على امتداد المقطوعة. وفي الإمكان استخدام طرق أخرى، من قبيل تحويل مقام المتوالية، أو استخدام مناهج الطباق اللحني (الكونتربَوان) القديمة من خلال معالجة المتوالية بواسطة "الحركة العكسية" (mouvement contraire)[6] و"الحركة المتراجعة" [7](mouvement retrograde).
وتنبع جدوى التأليف على هذا النحو من حقيقة أن الأبعاد تتكرر على نحو يوفر للمستمع لونا هارمونيا وفي ذات الوقت لحنيا متحررا من كل قطبية مقامية، بحيث تتخلص الألحان من قوانين الانجذاب الهارموني نحو نغمة ما أو تآلف ما.
السريالية التامة أو التعدد السريالي
وسوف تأتي مؤلفات ميلتون بابّيت Milton Babith الثلاث للبيانو عام 1947[8] لتشكل أولى الأعمال التي استخدمت القواعد السريالية في الطبقات الصوتية الحادة على مستويات المدة الزمانية، والظلال، والجرس والمساحة الصوتية، وهي: الظاهرة Phonemona، ومجموعة المزجEnsemble for Synthesizer ، والرؤية وصلاة Vision and Prayer. غير أن هذه السريالية المتكاملة واجهتها حركة نقدية أدت في سنوات العقد الثامن من القرن الماضي إلى ظهور توجه جديد في التأليف الموسيقي من قبيل "انحناء الزمن" courbure du temps لفرانسوا لوكلير François Leclère وموسيقى الطيف musique spectralلجيرار غريسيي Gérard Grisey.
[1] Paul Le Flem. (Sept., 1962). MUSICA n° 102, imp. CHAIX (seine), p 23 – 24.
[2] إدموند هوسرل: فيلسوف ألماني ومؤسس الظاهريات، ولد في تشيكوسلوفاكيا عام 1859 ودرس الرياضيات في ليبزغ وبرلين على كارل وايستراس ولئوبولد كرونكر، ثم ذهب إلى فيينا للدراسة تحت إشراف ليو كونيكس برغر في العام 1881، كما درس الفلسفة على فرانتس برنتانو وكارل شتومف. وقام بتدريس الفلسفة كطالب من عام 1887 قبل أن يصبح أستاذًا في عام 1901 في جامعة غوتنغن، ثم من عام 1916 وحتى تقاعده في عام 1928 في جامعة ألبرت لودفيج في فرايبورغ.
[3] ملحن ورسام ومنظر نمساوي ولد في 13 أيلول/سبتمبر 1874 في فيينا، وتوفي في 13 تموز/يوليو 1951 في لوس أنجلوس. بعد قرنين من الزمان، وبعد أن وضع يوهان سيباستيان باخ وجان فيليب رامو، أسس الموسيقى النغمية، سعى إلى تحرير الموسيقى من الدرجة اللونية واخترع موسيقى ذات اثنتي عشرة نغمة، والتي سيكون لها تأثير ملحوظ على جزء من موسيقى القرن العشرين.
[4] طريقة في التأليف الموسيقي تقوم على نظام سلم الاثنتي عشرة نغمة التي يحتويها السلم الكروماتي، ابتكرها المؤلف الموسيقي شونبرغ. وقد ابتكر قبله المؤلف النمساوي جوزيف ماتياس هاور Josef Matthias Hauer بثلاث سنوات نظاما شبيها قائما على مجموعة ستة أصوات.
[5] تنقلب الأبعاد بنقل النغمة الغليظة في البعد إلى "ديوان (أوكتافَ) أعلى"، أو بنقل النغمة الحادة إلى "ديوان (أوكتاف) أدنى" مع بقاء الأخرى ثابتة، وبذلك يتغير نوع البعد وصفته وما يحتويه من تونات (tons) وأنصافها (demis ton)، فتصبح الأبعاد بعد انقلابها كالآتي: الأولى، ثامنة – الثانية، سابعة – الثالثة، سادسة – الرابعة، خامسة – الخامسة، رابعة – الثالثة، سادسة – الثانية، سابعة، الأولى - ثامنة. كما تصبح صفات الأبعاد بعد انقلابها كالآتي: البعد التام يظل تاما – البعد الكبير يصبح صغيرا – البعد الصغير يصبح كبيرا – البعد الزائد يصبح ناقصا – البعد الناقص يصبح زائدا.
[6] تعني الحركة العكسية في الموسيقى الكلاسيكية أن يسير الخط اللحني لليد اليمنى في الاتجاه المناقض لخط اليد اليسرى، ومثال ذلك أن تنطلق اليد اليمنى من نغمة "دو" في اتجاه تصاعدي نحو جوابها الحاد (أي دو)، فيما تنطلق اليد اليسرى من"دو" في اتجاه تنازلي نحو جوابها الغليظ.
[7] تعني الحركة التراجعية كتابة نغمات اللحن الموسيقي على المفتاح لليد اليمنى وعزفها كالعادة من اليسار إلى اليمين، وكتابة ذات النغمات لليد اليسرى في اتجاه تقهقري، ومثالها النموذج التالي:
[8] مؤلف موسيقي أمريكي، ولد في جاكسون بولاية ميسيسيبي عام 1916. درس الموسيقى فتعلم العزف على الكمان وهو في الرابعة من عمره، ثم درس الكلارنيت والساكسوفون. وكان يعزف موسيقى الجاز، ويشتغل بكتابة الأغاني الشعبية، واشتغل مدرساً في جامعات نيويورك وبنسيلفَانيا وبرنستون. ويعتبر ممثل السوريالية بالولايات المتحدة. توفي عام 2011.
مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.
https://www.arabmusicacademy.orgأيار 31, 2023
أيار 31, 2023
أيار 31, 2023
أيار 31, 2023
Total Votes: | |
First Vote: | |
Last Vote: |
أيار 31, 2023 Rate: 5.00
أيار 31, 2023 Rate: 5.00
أيار 31, 2023 Rate: 5.00
أيار 02, 2021 Rate: 5.00
أيار 27, 2021 Rate: 5.00
تموز 29, 2021 Rate: 5.00
أيار 07, 2013 Rate: 1.00
أيار 02, 2015 Rate: 1.50
حزيران 30, 2012 Rate: 5.00