عبد العزيز ابن عبد الجليل
في بداية هذا القرن اعتاد الباريسيون من قاطني شارع "فَوجيرَارد" Vaugirard أن يروا قبل شروق الشمس من كل صباح ضياء مصباح صادرا من وراء نوافذ البيت رقم 48. وحدهم سكان الحي كانوا يعرفون تفسير هذا المشهد المنتظم كانتظام بزوغ نجم ما، إنه يؤذن بأن السيد جول ماسنيه Jules Massenet ((1842- 1912 شرع في العمل.
من هذه الشعلة الذهبية، وفي لحظات الفجر الذي تغلفه ظلال الطمأنينة انبثقت بالفعل أعمال كثيرة من قبيل ""فَيرتير وشارلوت" Werther et Charlotte وأوبرا "ثاوس وأتاناييل" Thaïs et Atanael ([2])، وأوبرا مانون Manon ([3])، وهي كلها إبداعات تحكي قصص عرائس أعاد إليها الحياة بيد خبيرة فنان رقيق العاطفة.
ويحل صباح اليوم الثالث عشر من آب/أغسطس 1912، فلا يظهر نور المصباح، وتظل المصاريع مغلقة، ومنذ ذلك اليوم لم تعد نجمة " فَوجيكَار" تلمع في سماء باريس، لقد مات جول ماسنيه.
كان ماسنيه – مثل العديد من الفنانين - كثير التطيّر، شديد التشاؤم من الرقم 13. وهو من فرط ذلك كان يحرص على ألا تجري العروض الأولى لمؤلفاته في اليوم الثالث عشر من الشهر، بل لقد دفعت به رهبة هذا الرقم إلى استبعاده من مدوناته الموسيقية، فأنت إذا تصفحت ما يوجد منها في مكتبة الأوبرا فستلاحظ أنه كتب بخط يده أرقامها على هذا النحو: 12، 12مكرر، 14، وبذلك يغيب رقم 13 عن غالبية الأوراق. ومهما يكن، فـ "لا أحد يستطيع أن يغلق ولا أن يفتح حسب هواه" هذه المدونةَ الكبرى التي هي الحياة، على حد قول الشاعر لإمارتين. ([4]) فمن عبث القدر أن مجموع أرقام السنة التي توفي فيها ماسنيه (1912) يعطينا ثلاثة عشر، وبذلك تلف الصفحة المخيفة بنفسها تحت أصابعه.
عقدة جول
عاش صاحبنا في رغد من العيش يعز على نظرائه الموسيقيين اليوم أن يحظوا بمثله. كان ذلك خلال فترة تولي أرماند فاليير Armand Fallières (1931-1841) ([5]) رئاسة الجمهورية الفرنسية من سنة 1906 إلى سنة 1913. في هذه الفترة التي دامت سبع سنوات، أدرك ماسنيه من دواعي الشهرة والسعادة والغنى ما لم يدرك مثله أي موسيقي في عصرنا الحاضر؛ فقد حصل على الجائزة الكبرى لروما وهو في العام الواحد والعشرين من عمره، وتم تعيينه أستاذا بمعهد الموسيقى خلفا لأستاذه أمبرواز توماس Ambroise Thomas وهو في سن السادسة والثلاثين، ومنح عضوية المؤسسة حيث خلف أستاذه السابق في مادة الهارموني "فرانسوا بازان" (François Bazin (1816 – 1878، وكلل ذلك توشيحه بلقب "ضابط كبير من وسام جوقة الشرف"، دون احتساب العدد الهائل من النجاحات المتتالية التي أكسبته شيخوخة سعيدة عاشها في قلعة "إيكَروفَيل Egreville القريبة من مرقده الأخير. فهل ما زالت في هذا السلم الذهبي درجة لم يرتقها ماسنيه؟
كان صاحبنا يرتاح لعبارات التنويه والتكريم، وكان يهوى اللعب الزاهية التي يسعد بها العظماء المتصابون.
ما تخفيه خصلة من العشب
"عندليب المرأة" هذا هو اللقب الذي منحه إياه الزمن الجميل. وهو بالتأكيد يستحقه. ذلك أن كل أعماله ليست في الواقع سوى احتفال شغوف ومتحمس بممثلات الجنس اللطيف. ولطالما كان هؤلاء – وخاصة منهن الحسناوات اللواتي يضطلعن بالمشاركة في أعماله – كلما زادهن إطراء زاد غناؤهن حسنا وبهاء.
لم تكن النساء الحسناوات وحدهن من يحظى بهذا الحنو، فلقد أجمع معاصروه على أنه كان بشوشا ودودا بشكل طبيعي، مولعا بترضية الناس، والثناء عليهم، وقد يبالغ في ذلك أحيانا إلى حد التملق. فقد دون في مذكراته إشادته بمعاصره بنجامان كَودار Benjamin Godard وبموهبته الموسيقية الأمر الذي يدل في رأينا على صفاء وده وحسن معاملته لمعارفه، لا نكاد نستثني من هؤلاء غير شخصين أولهما "فرانك" زميله بالمعهد الموسيقي الذي كانت سمعته المتردية بين طلابه تزعجه قليلا، وثانيهما "سان سانس". وهنا يتعين القول بأن هذا الأخير كان لاذع اللسان مما تسبب في صدامهما بين الحين والآخر. فقد حدث ذات يوم أن فضل المعهد - على غير انتظار – ماسنيه على سان سانس، وهو أكبر منه سنا، فبعث إليه برقية يقول فيها بتلطف: "لقد ارتكبت الأكاديمية ظلما كبيرا". فما كان من سان سانس إلا أن أجابه ببرقية أخرى يقول فيها بقليل من المودة: أنا أتفق معك تماما. وهكذا استمرت العلاقة بينهما على أسوإ حال، بالرغم من أنهما كانا يتبادلان التقدير.
هكذا كان ماسنيه ينطوي على جانب سلوكي "مغلف بالغموض" طالما تعرض أعضاء جوقه الموسيقي لعواقبه، وبالفعل، فقد قرر هؤلاء ذات يوم التعبير عن مطالبهم فعمدوا إلى التوقف عن مواصلة حصة التدريب، فما كان منه إلا أن دعاهم وانطلق يخاطبهم في لهجة صارمة وكأنه لواء الجيش قائلا: أنتم الذين ساعدتموني على الفوز بالعديد من الانتصارات ... ومن آزرني في وقت الشدة، ومن ... ومن...، وأنهي خطابه الممل قائلا: هيوا يا أصدقائي، سوف تستأنفون العمل من جديد بارتياح! فما كان من المضربين إلا أن استأنفوا التدريب. لقد كان "بريان" Briand صادقا يوم قال: "ماسنيه" حري بأن يكون برلمانيا ممتازا. وبالفعل، فقد كان كثير التعاطف مع "المستخدمين الصغار" بشكل لا تصنّع فيه، فهو يحب الناس البسطاء وذوي الإمكانيات المتواضعة، هؤلاء الذين يذكرونه بالظروف الصعبة التي عاشها عازفا على التيمبّاني في صالة الألعاب الرياضية. وننقل هنا حكاية مؤثرة رواها لنا خادمه السابق فَيكتور تعكس مدى رحابة صدر هذا "الطفل الكبير": كان بجماعة إيكَروفَيل "Egreville" ([6]) بستاني خدوم؛ دعاه ماسنيه يوما وقال له: عليك أن تنظف هذه الممرات جيدا، ولْتعلمْ أن السيدة زوجتي صعبة شَكِسَة! وفي صباح اليوم التالي أخذ السيد العجوز يتفقد مزرعته، ثم واجه البستاني بصرامة قائلا: انظر إلى هناك يا صديقي، هناك خُصلة من العشب في وسعك أن تراها من هنا. انطلق الرجل بسرعة نحو الخصلة، فما كاد يسحبها حتى انقادت إليه لتكشف عن قطعة مالية بقيمة مائة فلس وضعها ماسنيه ثَمَّةَ بيده.
هل يبتعد ماسنيه؟
تذهب أجيال مؤرخي الموسيقى المحدثين إلى القول بأن شعلة مجد ماسنيه التي كانت مشعة قبل خمسين عاما لم يتبق منها اليوم غير قليل من الرماد. بيد أن مسارح العالم بأسره لا تنفك حتى اليوم تعلن عن عرض "مانون" و "فَيرتير" وغيرهما من أعماله لفائدة الناشرين وورثته. ودون أن نتخذ من حكم هؤلاء المؤرخين معيارا صائبا، فإننا نعتقد أنهم أبعد ما يكونون عن العدل تجاه هذا المؤلف.
وقد جاء يوم إذا ذكر فيه اسم ماسنيه ارتسم على الوجوه العبوس، وفجأة تتحول موسيقاه التي كانت في الماضي موضع إشادة وتنويه، وألحانه المبثوثة في روائعه الغنائية ([7])، ونبراته "المداهنة"، وكل ذلك السحر الذي طالما اضطربت له أفئدة النساء في زمن التنانير الضيقة والقبعات، كل هذا، يتحول إلى حجة عليه لا له! وزاد في الطين بلة أن أصبح اسمه مهينا، لدرجة أن أحد النقاد كان يعتقد أن في نعت كَابرييل فوري بأنه "ماسنيه المقاطعة السادس عشرة" تقليلا من قيمته الفنية.
لقد أكد نيكولا بوسان ([8]) Poussin Nicolas أن "غاية الفن الأساسية هي الإمتاع"، ولم يفت ديبوسي نفسه – وهو الذي يدين بفضل ماسنيه عليه، ولا يخفي إعجابه به - أن يعلن أكثر من مرة أن غاية مناه "موسيقى تستطيبها الأذن". فهل من الخطإ أن نتعلق بسحر الموسيقى؟ ثم إذا كانت غاية بعض مؤلفات زماننا الحاضر أن ترسم فترة في حالة من الفوضى الكاملة، ألم يكن لماسنيه فضل التعبير الواضح عن الظروف التي عاشها؟
مات ماسنيه عشية الحرب العالمية الأولى. ولعل ذلك أن يكون انعكاسا بل روح "مطلع القرن العشرين" الذي لا ريب أنه كانت له مشاكله، مثل أي زمن آخر، غير أن حجم همومنا وعدد المحن التي مرت بنا تجعلنا اليوم نُرى تحت سقف فردوس مفقود؟
ومع ذلك، فأي منا في وسعه أن يذهب به الغرور إلى اعتقاد أنه يعرف كيف يصمد دائما أمام ماسنيه؟ من هذا الذي لا يتذكر اليوم ذلك المراهق الذي تأثر بموت دون كيشوت ([9])، وارتعش لقتامة تآلفات "طريق الهافَر" Route du Havre ([10]) عند نهاية أوبرا مانون Manon، وتَغَشّاه الحُلم أمام هذا العنوان البسيط: الفصل الثالث. شارلوت وفًيرتير. ليلة عيد الميلاد (Acte III – Charlotte et Werther, Nuit de Noel).
[1] Berthelot. MUSICA n° 103 Octobre 1962 imp. CHAIX (seine) pp 42 – 46.
[2]) أوبرا من تأليف ماسنيه في ثلاثة فصول وسبع لوحات. كتب كلماتها لويس كَاليت Louis GALLET يحكي فيها أحداثا وقعت في الإسكندرية أيام حكم البيزنطيين في القرن الخامس. جرى عرضها الأول بباريس في 16 مارس 1894.
[3]) أوبرا هزلية من إنشاء هنري ميلهاك Henri Meilhac وفيليب جيل Philippe Gille جرى عرضها الأول بباريس في 19/7/1884.
[4]) العبارة التي بين وشمتين مأخوذة من مقولة الشاعر لإمارتين التالية: " كتاب الحياة هو الكتاب الأسمى الذي لا يستطيع المرء إغلاقه أو إعادة فتحه متى شاء".
[5]) كليمون أرمان فاليير: سياسي فرنسي. ولد بتاريخ 6 تشرين الأول 1841 في ميزان التابعة لإقليم لو أي غارون، وتوفي في نفس المنطقة بتاريخ 22 حزيران 1931. شغل منصب وزير عدة مرات، منها منصب وزير للداخلية ووزير للخارجية، ثم رئيس لمجلس الوزراء، ورئيس لمجلس الشيوخ.
[6]) مقاطعة تقع على بعد حوالي مائة كلم جنوب العاصمة الفرنسية.
[7]) كمثال لهذه الأغاني مرثاة Elégie من بين 333 أغنية بمصاحبة البيانو.
8) أحد أعظم أساتذة الرسم الكلاسيكيين في الرسم الفرنسي.
[9]) كوميديا بطولية في خمسة فصول ألفها ماسنيه سنة 1910,
[10]) الطريق المؤدي إلى لوهافر، إشارة إلى الفصل الخامس والأخير من أوبرا مانون.
مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.
https://www.arabmusicacademy.orgأيار 31, 2023
أيار 31, 2023
أيار 31, 2023
أيار 31, 2023
Total Votes: | |
First Vote: | |
Last Vote: |
أيار 31, 2023 Rate: 5.00
أيار 31, 2023 Rate: 5.00
أيار 31, 2023 Rate: 5.00
كانون2 03, 2021 Rate: 5.00
كانون2 28, 2021 Rate: 5.00
أيار 02, 2021 Rate: 5.00
أيار 07, 2013 Rate: 1.00
أيار 02, 2015 Rate: 1.50
حزيران 30, 2012 Rate: 5.00